هامشُ الرّيح
أن نَسقط، في اللامعنى، يعني، الشّاطئ يصيرُ، ملايينًا من الحصى الصّغيرة، والبحر، تجمّعًا هائلًا لماء، لا شيء آخر، الوَردُ قرب النّافذة مجرّد نَبت، والنّافذة ثقبٌ في جدار الكهف، لا قيمة ولا سواء، الكلّ هباء وأنت في الكلّ هباء. * الأشياء تبقى هي ذاتها دائمًا، لا تغيّر أصيل يحدثُ في جوفها عندما نراها، البحر رحلةٌ أو مزاجٌ أو هياجٌ أو مصيرٌ، لكنّه ما اختلف، هو كثيرُ ماءٍ دائمًا، أمّا المعنى الذي نصنعهُ فهو عندما نرى الأشياء ببصيرةِ ذواتنا، من جوفنا زحفًا لخارجه، معنى أيّ ممّا نقوم به ونشعره، أيّ حسٍّ وانطباعٍ عمّا نعيشه، قدرتنا على تخزين الذّكريات ثمّ قدرة وعينا على نسيانها، الأشياء هي ذاتها دائمًا، بوجودنا أو عدمه، الشاطئ ملايين من الحصى الصغيرة، لو أردت، كما هو خزّان وَجدٍ، لو تراه. * نبكي على من راح، نبكي لأجل الرّاحلين، نبكي بثقلٍ بعدَ من يرحلون خفافًا، لكنّا نبكي على ذواتنا، في كلّ شيء، نخافُ أن نخفّ، نقترب كلّما خسرنا، من أن نخسر وجودنا، أن نصبح لا أحد. * لا أحد يعرفني في الطّريق إلى البيت، يسبقني ظلّي ثمّ أسبقه، شجرٌ غامقٌ يحمل الرّيح، وريحٌ تحملُ للأبدِ العابرِ فينا تذكيرٌ بالأبد، أنا آخرٌ بين الآخرين العابرين، أنا لهم: عابرٌ آخرٌ، لا أحد، وَهُم بالنسبة لي: لا أحد. * في الباص وفي الميترو، في محطّة القطار، قرب بائع السجائر أقف طويلًا، ثم أمشي، صعودًا وهبوطًا، أدخل أزقّةً وأخرج إلى شوارع، أقف وأنظر حولي: لا فرق، لا أحد هنا أعرفه ولا أحد هنا يعرفني، هم هنا لا أحد، وأنا هنا لا أحد. * في البيت، يُخطئ أصحابه نطق اسمي، تتغيّر الأصوات، ستضحك أُمّي حتمًا لو سمعَتهم، ما هكذا من سعادتها سَمّتني، أصيرُ أمامَهم ما ينطقون، غير مهم بكلّ حال، أنا بالنسبة لهم مستأجرٌ آخرٌ ولا شيء آخر، عابرٌ يدفع أجرة سقفٍ ونافذة، غير مهم كائنًا من كنت، ماذا أفعل وماذا أحبّ وبماذا أفكّر، حلّ مكاني مستأجرون قدامى وسيأتي بعدي جدد، أنا بينهم، لا أحد. وفي مخفر الشّرطة، لتصادم سيّارتين، الضّابط يسألني ما رأيت، ثمّ يكتب: عابرٌ كان في المكان صدفة، لا يسألني شيئًا آخرًا، لا أحكي له أيّ شيء آخر، أنا له صفة، عابرٌ بين تصادم سيّارتين، غير ذلك بلا أهميّة، لا أحد. وفي الپار، يبتسم النادل ثم تغيب ابتسامته، أنت هو؟ لا لستَ هو؟، لا بأس، لا فرق، زبون ما ولابدّ أنّك ستطلب شيئًا ما، ثمّ ابتسامةٌ أخرى يخصّصها لجميع الغرباء، بكل حال الجّميع هنا يشربون ويرحلون، وأنا مثلهم، ربّما سيحفظني لو شربتٌ شيئًا مكلفًا، سيعرفني لاحقًا وسيبتسم لي كأصدقاء قدامى، أو لو أتيتُ مرارًا واختلقتُ أحاديثًا، أو لو افتعلتُ شِجارًا، أو لو هنا فجأة متُّ، أمّا ما أنا عليه الآن، دون شجارٍ وموت وكؤوس مكلفة وأحاديث طويلة، أنّي تمامًا لا أحد. * هكذا، اللامعنى، يُصيّرك حتّى هامشًا لذاتك، شخصيّة ثانوية في رواية حياتك، هامش الأشياء، هامش الوجود، هامش الكائنات، هامش الكلمات، هامش المعنى ذاته حتّى إذ تصيره أو لا تصيره، هامش الطريق والبيت، هامش الرّيح، هامشُ الجّرح، هامشٌ فيك الجّريح، هامشُ الوسد.
سقوطٌ في الوسط، لا اهتزاز ولا عناء، سكون نصف الوتر.
* ..
لوحة: علاء الدين الحسون.