من خشبِ أعمدة الإنارة

على سُلّمٍ خشبيٍّ، تحملُ كلّ درجةٍ منهُ اسم أحدنا الّذي ثبّتها، نصعدُ سطحَ الدّار: /هو الشُّرفةُ وهو الباحة، السّطحُ، وهو صالون استقبال الضيوف وفسحةُ لعبِ أطفالهم، وهو مكان التأمّلِ ومكان تبادل الغَزل مع الجيران والشتائم مع المارّة، وهو زاوية التّدخين السريّة وزاوية تفحّص مجلّات الصُّور العارية، وهو ملجأ الهروب بعد أيّ مشكلة، كما هو: سريرُ بكاءِ الجّميع/.

ثمّ، مِن السّطح، مِن شُرفتِنا المُطلّةِ على حوائطِ الإسمنت، تقول أمّي وهي تصبّ لنا “المتّة” بذات الكأس تباعًا لكلِّ واحدٍ منّا: نحنُ أبناءُ الحَصاد، خلف كلّ هذا هناك ريفٌ بعيد وبيتٌ فسيح. ثمّ نتخيّلُ نحن، ريفًا بعيدًا، ونتخيّلُ، كم هو جميلٌ أنّنا أبناءُ حصاد، وبملء صدورنا نتنفّس حقلًا كاملًا دفعةً واحدة، ما أوسع هذا، كم نحن محظوظون، ياللسّعادة..

وفي أوّل البَرد، يقول أبي كلّ مرّة، وينسى أنّهُ قال: أخيرًا أتى الصّقيعُ، سأخبركم ماذا، هذا يجعلُ الأجساد أقوى؛ ثم يروي لنا، كيف أنّ الجُّندَ يركضون عراةَ الصّدورِ في الثّلج، كيف يلعبون فوق البِرَك المُتجمّدة، كيف يصيرون أقوياء بالمجّان، وأنّ قاعدتهم في اللعب هي في خسارة من ينسحبُ أوّلًا، هل ستنسحبون أم ستخرجون معي للرّكض؟

نقفزُ نحنُ حولهُ في كلّ مرّةٍ أيضًا، يالكلّ هذا، ياه كم نحن محظوظون! سنركض طبعًا! ياللسّعادة..

وعندما اعتقلَ الأمنُ أقرباء لنا، قال خالي الّذي لم يُعتقل، ردًّا على سؤال أخي الأصغر: هل نحن مجرمون؟ قال: لا لا، نحن سياسيّون، نفهم ونحلّل ونناقش ونكتب وكذا، ثمّ همسَ لي أخي فرِحًا: أترى؟ أخبرتك أنّنا عائلةٌ محظوظة، نحنُ سياسيّون، نفهم ونحلّل ونناقش ونكتب وكذا، ماذا تفعل بقيّة العائلات الأقلّ حظًّا سوى الأكل والنّوم؟ وأجبتهُ، أجل أجل، شعرتُ بهذا التميّزِ دائمًا ولم أشارك في أيّة نقاشات عاديّة عن الحياة اليوميّة، نحنُ مُميّزون، عائلةٌ مُميّزة، ياللسعادة..

ثمّ اشتدّ الرّصاص، وسَقَطت من الطّائرة فوارغُ قذائف فوق سطح بيتنا على السجّادة القديمة التي نجلس حولها وعليها تمامًا، نحنُ محظوظون أنّنا لم نصعد إلى السّطح يومها، كُنّا نختبئ جميعًا في الأسفل طوال أيّام الاشتباكات، نتبادل النُّكات، ونُدخّن، ما أكثر هذا الحظ،

ثمّ قالوا أنّنا يجب أن نخرج من البيتِ كما من الحيّ، فَخَرجنَا.

خَرَجنَا من كلّ شيء.

نحنُ أحياءٌ على الأقلّ، عائلةٌ محظوظة، نكرّرُ هذا يوميًّا عبر “السكايب”، نحنُ أحياء على الأقل، كلّ ما تبقّى تفاصيل، نحن أحياء، ولا شيء يُعكّر هذه السّعادة كُلّها، لا شيء، لا شيء، قليلٌ من الأرقِ هو مجرّد لذّة بالغة في انتقاء أحلام مُميّزة كلّ بضعة أيّام، دهشةُ صنع الأحلام والتّحضير لها خلال كلّ هذا الوقت المتاح، نتّفق جميعنا في شراكةِ الأرق، مثل كلّ العائلات السعيدة الأكثر ارتباطًا وحظًّا، ياللسعادة..

على السّطح القديم قالوا أنّهم وضعوا كتيبةً من القنّاصة، أو ربّما قنّاصًا واحدًا والخبرُ مبالغٌ به، لا فرق، هه، الحمقى، لا يعرفون أنّ الدّرجة الثّالثة من السّلم مكسورة، وأنّنا كسرناها قصدًا كما لو كلمة سرّ نعرفها وحدنا، لنضحك على كلّ من لا يعرفها.

أبناء الحصاد نحن، ما أكثر حظّنا، وما أقسى ألّا تكون ابن حصاد. * .. https://dahnon.org/archives/9622