علبةٌ اسمها العيش

كأنّهم يعرفونَ، كلّهم، صِغاراً، إذ ينزفُ منهم واحدٌ في إصبعه، يَجرحون أياديهم، ويُلصقون الدم بالدّم، ثمّ، مع ابتسامةٍ تُشفي، يقولون: تآخَينا، سنُحبّك للأبد. * كأنّهم، بغريزةٍ، يُحبّون، حبّ الأبد، ويُدركونَ، هَولَ الوحدةِ القادمة.  * لكنّ الحصان المُجنّح، نار الفينيق أيضاً، مثل ذاك الحُب، كائناتٌ نُحييها دون أن تكونَ حيّة، نُصدّقها كخلاصٍ مُشتهى لكلّ هذي الواقعيّة المُفرطة في عمق علبةِ العيش هذه، تكرار متواصلٌ لمحاولة وصفِ معنى أن تكونَ حيّاً. * حقّاً، ما معنى أن تكون حيّاً؟، أينَ أنت الآن؟، من أين أتيتَ؟، أين تذهبُ؟، ولماذا دوماً تخافُ البقاء، ودوماً، ستخافُ الرحيل؟ * مُصيبةُ الوَعي. * لا نحتاجُ أحبّاء، ربّما فقط نريدُ شهوداً على حيواتنا، علّ هذا كلّهُ أو بعضهُ يصيرُ معنى، أن يحفظ أحدهم كميّة السُكّر في قهوتك صباحاً، أن يراكَ تَرتشِفه، ثمّ أن تراهُ أنت إذ يَراك، وتقول، أنا حيٌّ إذاً، والقهوةُ طيّبة. * أكرهُ القهوة، أشربها يوميّاً، هُم كلّهم يفعلون ذلك، وأنا أريدُ أن أكون مثلهم، حيّاً أشربُ القهوة صباحاً وأثرثر عن الفرق بين الثورة والحرب وعن تعريف الشِّعر وموقفي من القضايا المصيرية. * لا أعرف أيّ قضيةٍ مصيريّة، أو كلّها، أحياناً تجاوز الطريق المليء بالسيارات يصير مصيريّاً، الطريق الفارغ أيضاً، جلوسك في المنزل ومراقبة الجدار، كلّها أشياء مصيرية، حسب مثقالك للوحدة، وتعريفك لما تفعلهُ في تجربة وجودك. * أنت موجود، حقيقي، الكرسيّ أيضاً، الضجيج، وعيُك لوجودك مجرّد صفة وعلامة كما غطاء طنجرة الطبخ يحمل ثقوباً. * وعيُكَ ثقبٌ دائم التوسّع، ترى منهُ نهايتك. * نُجرّبُ، بدهشةٍ دائمة، هذا الكائنُ الثقيلُ، العيش، ونموتُ، إذ نخسرُ الدهشة. * بشكل عام، نخسرُ الدهشة صغاراً، ثمّ، نحزمُ أشياءنا بحقيبةِ الوعي، ونتأخّر في الرحيل قليلاً، عمراً كاملاً تقريباً، من القيح. * أراكَ تَسمَع عينيّ، أسمعُ وجهك يئنّ، أنتَ حي، ومثلك أنا، أئنّ. * لكنّا نُحبّ الرحيل، كانتحارٍ مؤقّت، لو قليلاً نعرفُ، ما بينَ أيدينا، كم يصيرُ فقدهُ أيضاً، حياة. * أن تتّصل بأحدهم لأجل أحاديث فارغة، أن تلتصق بإحداهنّ، هي تُحدّثك عن قضاياها المصيريّة وأنت تراقبُ الفراغ في الجدار، أن تبتسم عندما يمرّ أمامك غريبان، عاشقةٌ تُعانق عشيقها، أن تستمع لحديث أُمّك عن قصة جارة خالتك أثناء طهور ابن ابنها، أن تصمتَ شهراً وأنت حي، كأنّك حَي. * “انطُق لأراك”، على الجدار القديم، في بيت الأسقف العالية، أحدهم تَرك هذا، حاولتُ عبثاً مسحها، غطيّتها بالأثاث، نمتُ قربها طويلاً، دون أن تختفي. * “اسكُت لأسمعك”، قال أحدهم أنها بقيّة الوصف، رديئة هي كعناوين الجرائد السياسيّة، لكني أحبّها، كالجلوس داخل النوافذ الكبيرة، في بيوت الأسقف العالية. * حُزني هنا صلدٌ، حقيقيٌّ، كأنّي حَي، سعادتي هناك هشّة، تجريبُ موتٍ ثم فتح أعين، اكتفاءٌ بالمراقبة وابتلاع الهواء. * المراقبةُ تصنعُ رحيلاً متواصلاً، رغم المكان. * الصمت رحيلٌ مؤقّت. * كُل رحيلٍ انتحار، ولو قليل، ولو قلتَ سأغيبُ قليلاً، لن أراكم، أو ربّما قد أراكم، ربّما أعود، ربّما لا، هذا كلّه، أنينكَ، من رائحة الوحدةِ، ورغبة الرحيل الدائم، والعودة الدائمة، بذات الوقت. * لا نُصدّق وُجود معنى، لا نُصدّق عَدم وجودِ معنى، نُريدُ الرّحيل الدائم، البَقاء الدائم، ثم يصيرُ كلّ شيءٍ مُؤقّتاً، كأنّ الميّت بعد قليل، يصير حياً، وكأننا، أحياء، نعلم أنّا، بعد قليل، سنرحل. * كلّ صبحٍ، تسيلُ ذات الرائحة، من بيوت العجائز، ونظراتهم. * هم يعرفون تماماً، العجائز، يعرفونَ كم يبدو هذا سهلاً، الوقوف في وجه القطار، يجلسون، على عتبات المنازل، ينتظرون، يراقبون، كيفَ نصطاد الهواء، نبتلعه، نجعلهُ سبباً، ثمّ نُسلّم عليهم، ونتهامسُ، أنّا عليهم، نحزن. * هم أيضاً، رغم ابتساماتهم في وجوهنا، علينا، محزونون. * العجائز أطفالٌ بوجوهٍ جَعِدة. * الوحدة مُجرّد رائحة، غمامةُ صوتٍ كتيمٍ تحملُ بيوتَ العجائز، تبتلعهُ، بهمسٍ خفيف. * الوعيُ وحدة، عميقة، كتيمة، رتيبة، كأرصفة البيوت الفارغة منذ لحظات، لن تغيّر في رائحتها، مفاتيح السعادة، أو جرّارات الحزن. * الوحدةُ مثقالُ وعيٍ، و عَيش. * .. https://dahnon.org/archives/8973