ثلاثة كلاب

I –

عادل ويارا انتقلا حديثًا من سوريا إلى إحدى ضواحي اسطنبول، يتقنان اللغة العربيّة ولا شيء غيرها، عادل يبحث عن أيّ عمل، يارا طاهية، سيضطرّان للسفر لأجل شغلٍ سريعٍ طُلِبَ من يارا، قرية صغيرة قريبة تقيم مهرجان طبخ وإطعام عائلات فقيرة، المهرجان سيستمرّ أيّامًا، المنظّمون طلبوا منها الإشراف على الطّبخ وسيدفعون لها مبلغًا جيّدًا يكفي أجرة بيتهم الجديد لشهرين.

عادل غير قادر على الإنجاب ويتلقى علاجًا قد يطول وقته، لا أطفال لديهما، كما مشاكل الفقر وتبعاته بدأت بتخريب كلّ ما فكّرا به، العلاقة المتوترة بينهما دفعت عادل للتفكير بتبنّي كلب، يارا تحبّ الكلاب وستتفاجأ كثيرًا، وفعلًا، الكلب “بارود” الصّغير صار طفلهما الجديد.

لا أقرباء لهما في المحيط ولا أصدقاء ولا معارف، لم يكن قد مضى على وجودهما في الضاحية الجّديدة إلّا بضعة أسابيع، جيرانهم الصّينيّون جدد أيضًا في الشّقة المقابلة ولا يخرجان كثيرًا، بقيّة الشّقق فارغة تنتظر عقود البيع أو التأجير.

لا يستطيعان اصطحاب الكلب بارود معهما، لم تنفع توسلات يارا لمديرة المهرجان، كما يجب أن يسافر معها عادل، لن تستطيع تدبّر تكاليف استئجار مساعد قربها، لن يكون حينها المبلغ مجزيًا.

قال عادل: سنترك بارود عند جيراننا. وافقت يارا، لا خيار آخر.

طرقات على الباب، مرحبًا -بالعربيّة- قالت يارا للزوجة الصينية، معلش يضل بارود عندكم؟ هادا كلبنا ومنحبو كتير، رح نسافر كم يوم بس ومنرجع. مع بعض الكلمات الإنگليزيّة من عادل: هاللو بليز، ون ويك، هاللو..

ابتسمت الزّوجة الصينيّة وزوجها، نطقا بعض الكلمات بالصينيّة والإنگليزيّة، الزوجة قامت بما يدلّ على أنّها حركة شكر، فعلت يارا مثلها، ثمّ انطلقت هي وعادل مسرعين صوب محطة الباص.

بعد أسبوع، في مخفر الشّرطة القريب، قال المترجم أنّهما -الزوج والزوجة الصينيين- ظنّا الكلب هديّة تعارف لطيفة من جيرانٍ لطفاء، وأنّ ذاك اليوم كان ضمن أيّام مهرجان تقليديّ مخصص لتناول لحوم الكلاب في مقاطعة يولين الآتيان منها في الصّين.

– II –

سلوى انفصلت عن عماد قبل أيّام ولا أصدقاء كثر لها في اسطنبول، تنتظرُ عملًا في نهاية الشّهر قد يشغلها قليلًا عن تذكّر كلّ ما مرّت به حتّى أصبحت هكذا وحدها، تتنقّل من حفلة إلى أخرى، أصدقاء جدد على الدوام، حشيش مجاني، شباب حلوين، موسيقا، الخ.

الحفلة الأخيرة في الهواء الطّلق كانت الأفضل، ليس فقط بسبب الموسيقا، بل أيضًا أنهّ وقبل انتهائها بساعات وجدت سلوى قطًّا صغيرًا جميلًا لم تر له مثيلًا سابقًا، أذنان طويلتان وشعر أشقر لامع، أيضًا تعرّفت إلى “أولغو” الصبيّة التركيّة الّتي كانت تدخّن معها، أصبحتا صديقتين فورًا بسبب نكتة قالتها سلوى عن شابٍّ حاول التودّد لهما.

فلنأخذه بسرعةٍ إلى منزلي لنحمّمه، قالت أولغو بالإنگليزيّة عن القط، عندي كلب “تشاوتشاو” صغير في المنزل وعندي شامبو خاص للحيوانات الأليفة ولديّ مناشف وطعام وكلّ ما نحتاجه له، ستتعرّفين على بيتي أيضًا وسنشرب كأسًا.

وافقت سلوى، لم تكن حقًا تريد العودة وحدها للمنزل، أولغو طلبت سيّارة أجرة، نصف ساعة ثمّ دخلتا المنزل الصّغير.

بعد الحمّام بدا القطّ أكثر جمالًا، الكلب مهتمّ جدًا باللعب معه، القطّ لا يتحرّك كثيرًا، يتفحّص المنزل بعينيه ويتفادى عواء الكلب.

فلنتركهما هنا في غرفتي يلعبان، قالت أولغو، تعاليّ ندخّن في الصالون بعيدًا عن كلّ هذا الضجيج، لديّ قطعة حشيش صغيرة ونصف لتر عرق.

خرجت سلوى، وضعت أولغو بعض الطعام والألعاب ثم خرجت أيضًا وأغلقت الباب.

يبدو أنّهما نائمين، قالت سلوى لأولغو بعد حوالي النصف ساعة، ضحكت أولغو: أجل، لا يصدران أيّ صوت، نحن نشرب وهما يسكران. ثمّ أطلقت ضحكة طويلة.

لا أصدّق جمال هذا القط، تعالي نتفحّص طريقة نومه.

وصل موظّف البلديّة بعد حوالي العشر دقائق، وقف أمام باب الغرفة، رفع جهاز الاتصال اللاسلكي قائلًا: ألو، ألو، أجل أنا في الموقع، نحتاج قفصًا وخبير حيوانات لتوثيق الحالة، لدينا نصف كلب وجرو قط برّي أو أسد جبليّ، لستُ واثقًا تمامًا.

– III –

دينيز مدرّس لغة تركيّة لغير الأتراك، رشا وافدة جديدة تتلقى دروسًا ويعجبها شكل دينيز جدًا، هو لا يخرج عادةً مع طالباته، لكن “بهدلة” رشا له مرّة ساهمت في لفت انتباهه لها، كانا يتكلمان عمّا يحدث في سوريا، يعرف دينيز بعض التفاصيل العشوائية ممّا يتمّ تناقله حوله، هناك داعش تحارب النظام السوريّ، المدنيون يقتلهم الإسلاميّون ولهذا يهاجرون، لا أحد يعلم من يطلق قنابل كيميائية، في المناطق المحاصرة يأكل الناس حيواناتهم الأليفة. هذا ما قاله لها عندما قالت له بالعربيّة: يا بيي ما أغشمك، ثمّ: كومبليت بليز.

لم تعد رشا تكترث له كثيرًا، تسميه في قرارة نفسها “الغبي الوسيم”، هو صارَ مهتمًّا بمعرفة تفاصيل ما يحدث في سوريا لأجل إعادة التقرّب من رشا.

هناك حفلُ خطوبةٍ ستقيمه عائلتي في مزرعتنا الصيفيّة، أنتم جميعًا مدعوّون. قال دينيز لطلاب الفصل. ألن يشكل هذا عبئًا عليك؟ نحن أكثر من عشرة أشخاص!، قال أحد الطلّاب. لا لا، على العكس، ردّ دينيز، فلنعتبره حفل وداع لنا أيضًا، بعد إسبوع واحد ستنتقلون لمستوى آخر.

أثناء الحفل، بدأ الجميع تبادل قرع الأنخاب ثمّ اختيار شركاء رقص، رشا تحتاج المزيد من الشراب ولا تحبّ الرّقص، انسحبت للوراء قليلًا ثمّ طلبت سيگارة من أحدهم وراحت تتجوّل حولهم في المزرعة.

كلب الحراسة مربوط بجنزير حديديّ، رشا تحبّ الكلاب، اقتربت منه تتفحّصه، مسحت على شعره، لم يبد أيّ ردّ فعل، تركتهُ وعادت.

-أنت السوريّة آكلة لحوم الكلاب إذن. همست إحداهنّ في أذن رشا. -عفوًا! ما قصدك؟ -تعرفين قصدي، وما أريد قوله لك أن تبتعدي عن دينيز، هو يحبني أنا. -أنت تافهة.

مشت رشا مستعجلة تفكّر فقط بالخروج، دينيز انتبه لها وأوقفها: -ما بك؟ ماذا حدث؟ -لا شيء، جعتُ فقط، لديّ كلب في ثلّاجة منزلي سأذهب لتناوله، ابتعد عن وجهي أيها الغبيّ. -لا لست مضطرة لفعل هذا! أنت بخير وأمان هنا، سأساعدك على التخلص من هذه العادة.

ركضت رشا وهي لا تصدق ما تسمع، تجاوزت بوابة المزرعة، الكلب أيضًا لم يبد أيّ رد فعل. * .. https://dahnon.org/archives/10475