(…….)

– لكنّ الصّمتَ الوحيدَ الّذي لا يُصدِرُ صوتاً يكونُ عندما تَصِلهُ لا عندما تُقرّره، عندما تعيشهُ كما لو أنّه نَفَسٌ آخر يموتُ ليُحييك بلا معنى، أن تُفكّر بأنّكَ صامتٌ وأن تعي ذلك وتحلّله وتشرحه لا يعني أبداً أنّك صامت.. 

– لكنّ الأنفاس كُلّها ذات معنى، كُلّ واحدٍ بمفرده معجزة..

– هو معجزةٌ عندما لا تراه، وعيك يحاكمُ الأشياء بمفردات عقلك، يحبسُ المعجزات في رَغبةٍ غرائزيّةٍ خائفة وجائعة للمعرفة كما لتفسير كلّ مدهش بما يُعقلِنه ويُفقِده إدهاشيّته، أنت عبدٌ لأنّك تُريدُ أن تعلم، وعبدٌ لأنّك تريدُ ألّا تعلم..

– والحريّة؟

– أن لا تُريد، أن تترك الأنفاس تعبُرك وتمرّ حولك دون أن تُراقبها، أن تتوقّف عن تسمية الصّمت صمتاً، أن تتوقّف عن تسمية كلّ ما تراهُ وكلّ ما يَحدث، أن يُصبح وعيك جزءاً جامعاً من الكُلّ المُفرد وكُلّاً مفرداً من الكُلّ الجزء، لا مجرّد مراقبٍ تغويه آلهةُ الإجابات، فلا أنت في اندماجٍ تام، ولا في تمام الانفصال، ذيلُ إلهٍ عقليٍّ شهواني يكتنز السّحرَ له وحده..

– ما السعادةُ في هذا المقياس؟

– أن تكون سعيداً دون أن تتوقّف لملاحظة ذلك، أن تختبرَ حزنك دون أن تراقبه، أن تحبّ دون أن تقيس، تلكمُ اللحظات التي تخرج بها منك إليك لترى نفسك ما أنت صانعٌ تشقّك كائنين أحدهما يقتل الآخر، يعاكسه، أحدهما يضحك، والثاني يُسجّل، أحدهما يصمت، والآخر يُراقب، أحدهما يحزن، والآخر يبحث ويُفسّر..

– وما وجودك هنا إذاً؟

– ذاكرةُ اللحظة السّابقة التي تقتلها اللحظة التّالية أثناء انتظارك للّحظة القادمة بعدها، أنت إذ تتذكّر أو تنتظر تعيشُ في المنتصف تماماً، اصمت، لا تنتظر ولا تتذكّر، اهدأ، أنت الوقت، وأنت من يقرّر وجودك من عدمه..

– والمعرفة؟

– قد تساعدك الفكرة والأفكار والعمليّات والذاكرة، لكنّها دونك تبقى كخضار الطبخ الغير مُقطّعة، لا تصنعُ وحدها حساءً، أنت حتّى خيالك تحيطه بعقلك، تُسمّيه خيالاً، تُشوّه ما حولك كأنّك تتخيّل، تتخيّل فقط ما يُبيحُ لك العقل تخيّله، حتى أقوى آلهتك، تتفوّق عليك وحدك، تنقصها حاجاتك لتصيرك، معرفتك العقليّة مجرّد بابٍ آخر لك، فتحةٌ أخرى يُخفيها جسدك المليء بالثقوب، جسدٌ متعدّد الأبواب يسكنك، جلّ معرفتك التي هي فيك ومنك هي كُلّ ما تعرفه وكلّ ما لا تعرفه وكلّ ما تريدُ معرفته وكلّ ما لا تريدُ معرفته، كلّ ما شعرته وكلّ ما لم تشعره، كلّ ما سيأتي عليك وكلّ ما مرّ بك، أنت نهرٌ يعبره الوقت، وما تُسميّه وعياً، هو وحده، أنت، وأنت وحدك، مياه العمق الكونيّة العذبة..

المياهُ دائماً فيك هادئة، جسدك بِما يعرفه قاربٌ سيوصلك هناك، حياتك مجاديف أنت من يُقرّرُ سرعة حركتها، هكذا، الصمتُ الوحيدُ الذي لا يُصدِر صوتاً، حتّى لو كلّ وجودك هو أن تصرخ للأبد. * .. https://dahnon.org/archives/9340